فصل: تفسير الآيات (229- 230):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل



.تفسير الآيات (229- 230):

{الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
{الطلاق} بمعنى التطليق كالسلام بمعنى التسليم، أي التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة، ولم يرد بالمرتين التثنية ولكن التكرير، كقوله: {ثم ارجع البصر كرّتين} [الملك: 4] أي كرّة بعد كرّة، لا كرّتين اثنتين. ونحو ذلك من التثاني التي يراد بها التكرير قولهم: لبيك وسعديك وحنانيك وهذاذيك ودواليك. وقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} تخيير لهم بعد أن علمهم كيف يطلقون، بين أن يمسكوا النساء بحسن العشرة والقيام بمواجبهنّ، وبين أن يسرحوهنّ السراح الجميل الذي علمهم. وقيل: معناه الطلاق الرجعي مرّتان، لأنه لا رجعة بعد الثلاث، فإمساك بمعروف أي برجعة، أو تسريح بإحسان أي بأن لا يراجعها حتى تبين بالعدّة، أو بأن لا يراجعها مراجعة يريد بها تطويل العدة عليها وضرارها. وقيل: بأن يطلقها الثالثة في الطهر الثالث.
وروي: أنّ سائلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الثالثة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «أو تسريح بإحسان» وعند أبي حنيفة وأصحابه: الجمع بين التطليقتين والثلاث بدعة، والسنة أن لا يوقع عليها إلا واحدة في طهر لم يجامعها فيه، لما روي في حديث ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «إنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالاً فتطلقها لكل قرء تطليقة» وعند الشافعي. لا بأس بإرسال الثلاث.
لحديث العجلاني الذي لاعن امرأته فطلقها ثلاثًا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه. روي: أنّ جميلة بنت عبد الله بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس وكانت تبغضه وهو يحبها. فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، لا أنا ولا ثابت، لا يجمع رأسي ورأسه شيء، والله ما أعيب عليه في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام، ما أطيقه بغضاً، إني رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً فنزلت، وكان قد أصدقها حديقة فاختلعت منه بها وهو أوّل خلع كان في الإسلام.
فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ}؟ إن قلت للأزواج لم يطابقه قوله {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء ليسوا بآخذين منهن ولا بمؤتيهن؟ قلت: يجوز الأمران جميعاً: أن يكون أوّل الخطاب للأزواج، وآخره للأئمة والحكام، ونحو ذلك غير عزيز في القرآن وغيره، وأن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم، فكأنهم الآخذون والمؤتون {مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ} مما أعطيتموهنّ من الصدقات {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} إلا أن يخاف الزوجان ترك إقامة حدود الله فيما يلزمهما من مواجب الزوجية، لما يحدث من نشوز المرأة وسوء خلقها {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فلا جناح على الرجل فيما أخذ ولا عليها فيما أعطت {فِيمَا افتدت بِهِ} فيما فدت به نفسها واختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر. والخلع بالزيادة على المهر مكروه وهو جائز في الحكم.
وروي أن امرأة نشزت على زوجها فرفعت إلى عمر رضي الله عنه، فأباتها في بيت الزبل ثلاث ليال ثم دعاها فقال: كيف وجدت مبيتك؟ قالت: ما بت منذ كنت عنده أقر لعيني منهن. فقال لزوجها: اخلعها ولو بقرطها. قال قتادة: يعني بمالها كله، هذا إذا كان النشوز منها، فإن كان منه كره له أن يأخذ منها شيئاً. وقرئ (إلا) أن يخافا، على البناء للمفعول وإبدال أن لا يقيما من ألف الضمير، وهو من بدل الاشتمال كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود الله.
ونحوه: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] ويعضده قراءة عبد الله {إلا أن تخافوا} وفي قراءة أبي: {إلا أن يظنا}. ويجوز أن يكون الخوف بمعنى الظن. يقولون: أخاف أن يكون كذا، وأفرق أن يكون، يريدون أظن {فَإِن طَلَّقَهَا} الطلاق المذكور الموصوف بالتكرار في قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} واستوفى نصابه. أو فإن طلقها مرة ثالثة بعد المرّتين {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} من بعد ذلك التطليق. {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} حتى تتزوّج غيره، والنكاح يسند إلى المرأة كما يسند إلى الرجل كما التزوج. ويقال: فلانة ناكح في بني فلان. وقد تعلق من اقتصر على العقد في التحليل بظاهره وهو سعيد ابن المسيب. والذي عليه الجمهور أنه لابد من الإصابة، لما روى عروة عن عائشة رضي الله عنها: أنّ امرأة رفاعة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوّجني، وإنما معه مثل هدبة الثوب وإنه طلقني قبل أن يمسني، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عُسيلتك» وروي: أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت فقالت: إنه كان قد مسني، فقال لها: كذبت في قولك الأوّل، فلن أصدّقك في الآخر، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتت أبا بكر رضي الله عنه فقالت: أأرجع إلى زوجي الأوّل. فقال: قد عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال لك ما قال، فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكر رضي الله عنه قالت مثله لعمر رضي الله عنه فقال: إن أتيتني بعد مرّتك هذه لأرجمنك، فمنعها. فإن قلت فما تقول في النكاح المعقود بشرط التحليل؟ قلت: ذهب سفيان والأوزاعي وأبو عبيد ومالك وغيرهم إلى أنه غير جائز، وهو جائز عند أبي حنيفة مع الكراهة. وعنه أنهما إن أضمرا التحليل ولم يصرحا به فلا كراهة.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه لعن المحلل والمحلل له» وعن عمر رضي الله عنه: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما وعن عثمان رضي الله عنه: لا نكاح إلا نكاح رغبة غير مدالسة {فَإِن طَلَّقَهَا} الزوج الثاني. {أَن يَتَرَاجَعَا} أن يرجع كل واحد منهما إلى صاحبه بالزواج {إِن ظَنَّا} إن كان في ظنهما أنهما يقيمان حقوق الزوجية. ولم يقل: إن علماً أنهما يقيمان، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا الله عز وجل. ومن فسر الظن هاهنا بالعلم فقد وهم من طريق اللفظ والمعنى، لأنك لا تقول: علمت أن يقوم زيد، ولكن: علمت أنه يقوم، ولأنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، وإنما يظن ظناً.

.تفسير الآيات (231- 232):

{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
{فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي آخر عدتهن وشارفن منتهاها. والأجل يقع على المدّة كلها، وعلى آخرها، يقال لعمر الإنسان: أجل، وللموت الذي ينتهي به: أجل، وكذلك الغاية والأمد، يقول النحويون (من) لابتداء الغاية، و (إلى) لانتهاء الغاية. وقال:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ مُدَّةَ الْعُمْرِ ** وَمُودٍ إذَاانْتَهَى أمَدُهْ

ويتسع في البلوغ أيضاً فيقال: بلغ البلد إذا شارفه وداناه. ويقال: قد وصلت، ولم يصل وإنما شارف، ولأنه قد علم أنّ الإمساك بعد تقضِّي الأجل لا وجه له، لأنها بعد تقضيه غير زوجة له و في غير عدّة منه، فلا سبيل له عليها {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فإما أن يراجعها من غير طلب ضرار بالمراجعة {أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وإما أن يخليها حتى تنقضي عدّتها وتبين من غير ضرار {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} كان الرجل يطلق المرأة ويتركها حتى يقرب انقضاء عدتها، ثم يراجعها لا عن حاجة، ولكن ليطوّل العدة عليها، فهو الإمساك ضراراً {لّتَعْتَدُواْ} لتظلموهنّ. وقيل: لتلجئوهن إلى الافتداء {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} بتعريضها لعقاب الله {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا} أي جدّوا في الأخذ بها والعمل بما فيها، وارعوها حق رعايتها، وإلا فقد اتخذتموها هزواً ولعباً. ويقال لمن يجدّ في الأمر: إنما أنت لا عب وهازئ. ويقال: كن يهودياً وإلا فلا تلعب بالتوراة. وقيل: كان الرجل يطلق ويعتق ويتزوّج ويقول: كنت لاعباً.
وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «ثلاث جدّهن جدّ وهزلهن جدّ: الطلاق والنكاح والرجعة» {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} بالإسلام وبنبوّة محمد صلى الله عليه وسلم {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة} من القرآن والسنة وذكرها مقابلتها بالشكر والقيام بحقها {يَعِظُكُمْ بِهِ} بما أنزل عليكم {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} إما أن يخاطب به الأزواج الذين يعضلون نساءهم بعد انقضاء العدة ظلماً وقسراً، ولحمية الجاهلية لا يتركونهنّ يتزوّجن من شئن من الأزواج. والمعنى: أن ينكحن أزواجهن الذين يرغبن فيهم ويصلحون لهنّ، وإما أن يخاطب به الأولياء في عضلهنّ أن يرجعن إلى أزواجهنّ روي: أنها نزلت في معقل بن يسار حين عضل أخته أن ترجع إلى الزوج الأوّل. وقيل: في جابر بن عبد الله حين عضل بنت عم له. والوجه أن يكون خطاباً للناس، أي لا يوجد فيما بينكم عضل، لأنه إذا وجد بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين. والعضل: الحبس والتضييق. ومنه: عضلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج. وأنشد لابن هرمة:
وَإنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ** عَقَائِلُ قَدْ عَضُلْنَ عَنِ النِّكَاح

وبلوغ الأجل على الحقيقة.
وعن الشافعي رحمه الله: دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين {إِذَا تراضوا} إذا تراضى الخطاب والنساء {بالمعروف} بما يحسن في الدين والمروءة من الشرائط وقيل: بمهر المثل.
ومن مذهب أبي حنيفة رحمه الله أنها إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها فللأولياء أن يعترضوا.
فإن قلت: لمن الخطاب في قوله: {ذلك يُوعَظُ بِهِ}؟ قلت: يجوز أن يكون لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولكل أحد. ونحوه {ذلك خير لكم وأطهر} [المجادلة: 12] {أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} من أدناس الآثام، وقيل: (أزكى وأطهر) أفضل وأطيب {والله يَعْلَمُ} ما في ذلك من الزكاء والطهر {وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ه، أو: والله يعلم ما تستصلحون به من الأحكام والشرائع وأنتم تجهلونه.

.تفسير الآية رقم (233):

{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
{يُرْضِعْنَ} مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد {كَامِلَيْنِ} توكيد كقوله {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] لأنه مما يتسامح فيه فتقول: أقمت عند فلان حولين، ولم تستكملهما.
وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما: {أن يكمل الرضاعة}: وقرئ: {الرِّضاعة}. بكسر الراء. {والرضعة}. {وأن تتم الرضاعة} و {أن يتم الرضاعة}، برفع الفعل تشبيهاً ل (إن) ب (ما) لتأخيهما في التأويل.
فإن قلت: كيف اتصل قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} بما قبله؟ قلت: هو بيان لمن توجه إليه الحكم، كقوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] لك بيان للمهيت به، أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاع.
وعن قتادة: حولين كاملين، ثم أنزل الله اليسر والتخفيف فقال: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} أراد أنه يجوز النقصان، وعن الحسن: ليس ذلك بوقت لا ينقص منه بعد أن لا يكون في الفطام ضرر. وقيل: اللام متعلقة بيرضعن، كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتمّ الرضاعة من الآباء، لأنّ الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم، وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه، وهي مندوبة إلى ذلك ولا تجبر عليه. ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة رحمه الله ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح. وعند الشافعي يجوز. فإذا انقضت عدّتها جاز بالاتفاق.
فإن قلت: فما بال الوالدات مأمورات بأن يرضعن أولادهنّ؟ قلت: إما أن يكون أمراً على وجه الندب، وإما على وجه الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. وقيل: أراد الوالدات المطلقات. وإيجاب النفقة والكسوة لأجل الرنَفْسٌ إِلاَّ وضاع {وَعلَى المولود لَهُ} وعلى الذي يولد له وهو الوالد. و{لَهُ} في محل الرفع على الفاعلية، نحو {عَلَيْهِمْ} في {المغضوب عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] فإن قلت لم قيل {المولود} له دون الوالد.
قلت: ليعلم أنّ الوالدات إنما ولدن لهم، لأن الأولاد للآباء، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وأنشد للمأمون بن الرشيد:
فَإنمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أوْعِيَة ** مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أبْنَاءُ

فكان عليهم أن يرزقوهن ويكسوهن إذا أرضعن ولدهم، كالأظآر. ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم يكن هذا المعنى، وهو قوله تعالى: {واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِى وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً} [لقمان: 33]، {بالمعروف} تفسيره ما يعقبه، وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضارّا. وقرئ {لا تكلف} بفتح التاء؛ و(لا نكلف) بالنون. وقرئ: {لا تضارُّ} بالرفع على الإخبار، وهو يحتمل البناء للفاعل والمفعول، وأن يكون الأصل: تضارر بكسر الراء، وتضارر بفتحها.
وقرأ {لاَ تُضآرَّ} بالفتح أكثر القراء.
وقرأ الحسن بالكسر على النهي، وهو محتمل للبناءين أيضاً. ويبين ذلك أنه قرئ {لا تضارَرْ}، ولا {تضارِرْ}، بالجزم وفتح الراء الأولى وكسرها.
وقرأ أبو جعفر: لا {تضارْ}، بالسكون مع التشديد على نية الوقف.
وعن الأعرج {لا تضارْ} بالسكون والتخفيف، وهو من ضاره يضيره. ونوى الوقف كما نواه أبو جعفر، أو اختلس الضمة فظنه الراوي سكونا.
وعن كاتب عمر بن الخطاب: {لا تضرر}. والمعنى: لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الرزق والكسوة، وأن تشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئرًا، وما أشبه ذلك؛ ولا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولده، بأن يمنعها شيئًا مما وجب عليه من رزقها وكسوتها؛ ولا يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، ولا يكرهها على الإرضاع. وكذلك إذا كان مبنياً للمفعول فهو نهي عن أي يلحق بها الضرار من قبل الزوج، وعن أن يلحق بها الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد، ويجوز أن يكون {تُضَارَّ} بمعنى تضر، وأن تكون الباء من صلته، أي لا تضرّ والدة بولدها، فلا تسيء غذاءه وتعهده، ولا تفرط فيما ينبغي له، ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها. ولا يضرّ الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يقصر في حقها فتقصر هي في حق الولد.
فإن قلت: كيف قيل بولدها وبولده؟ قلت: لما نهيت المرأة عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبيّ منها. فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد {وَعَلَى الوارث} عطف على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}، وما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. فكان المعنى: وعلى وارث المولود له مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة، أي إن مات المولود لزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشريطة التي ذكرت من المعروف وتجنب الضرار. وقيل: هو وارث الصبي الذي لو مات الصبي ورثه. واختلفوا، فعند ابن أبي ليلى كل من ورثه، وعند أبي حنيفة من كان ذا رحم محرم منه. وعند الشافعي: لا نفقة فيما عدا الولاد.
وقيل من ورثه من عصبته مثل الجد والأخ وابن الأخ والعم وابن العمّ. وقيل: المراد وارث الأب وهو الصبي نفسه، وأنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه.
وقيل (على الوارث) على الباقي من الأبوين من قوله: {واجعله الوارث منا} {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} صادراً {عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا، وهذه توسعة بعد التحديد. وقيل: هو في غاية الحولين لا يتجاوز، وإنما اعتبر تراضيهما في الفصال وتشاورهما: أمّا الأب فلا كلام فيه، وأمّا الأمّ فلأنها أحق بالتربية وهي أعلم بحال الصبي. وقرئ: {فإن أراد}. استرضع: منقول من أرضع. يقال: أرضعت المرأة الصبي، واسترضعتها الصبي، لتعديه إلى مفعولين، كما تقول: أنجح الحاجة، واستنجحته الحاجة والمعنى: أن تسترضعوا المراضع أولادكم، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل {إِذَا سَلَّمْتُم} إلى المراضع {مَّا ءاتَيْتُم} ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى:
{إِذَا قمتم إلى الصلاة} [المائدة: 6] وقرئ: {ما أتيتم}، من أتى إليه إحساناً إذا فعله. ومنه قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61] أي مفعولاً. وروى شيبان عن عاصم: {ما أوتيتم}، أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، ونحوه {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] وليس التسليم بشرط للجواز والصحة، وإنما هو ندب إلى الأولى. ويجوز أن يكون بعثاً على أن يكون الشيء الذي تعطاه المرضع من أهنى ما يكون، لتكون طيبة النفس راضية، فيعود ذلك إصلاحاً لشأن الصبي واحتياطاً في أمره، فأمرنا بإيتائه ناجزاً يداً بيد، كأنه قيل: إذا أدّيتم إليهن يداً بيد ما أعطيتموهن {بالمعروف} متعلق بسلمتم، أمروا أن يكونوا عند تسليم الأجرة مستبشري الوجوه. ناطقين بالقول الجميل، مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن، حتى يؤمن تفريطهن بقطع معاذيرهن.